كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



بِلالُ خيرُ الناسِ وابنُ الأَخْيَرِ

وَثَبَتَتْ فيهما في التعجب نحو: ما أَخْيره وما أشَرَّه. ولا تُحْذَفُ إلاَّ في نُدورٍ عكسَ أفعل التفضيل. قالوا: (ما خيرَ اللبنِ للصحيح وما شَرَّه للمبطون) وهذا مِنْ محاسِن الصناعة. وقرأ أبو قيس الأوْدِيُّ، ومجاهد الحرفَ الثاني {الأُشُرُ} ثلاث ضماتٍ. وتخريجها: على أنَّ فيه لغةَ {أَشُر} بضم الشين كحَذُر وحذِر، ثم ضُمَّت الهمزة على أصلِ تيْكَ اللغةِ كحَذُر.
{إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)}.
قوله: {فِتْنَةً}: مفعولٌ له أو مصدرٌ من معنى الأول، أو في موضع الحال.
{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)}.
وقرأ العامة: {قِسْمَةٌ} بكسر القاف. ورُوي عن أبي عمروٍ فتُحها وهو قياس المَرَّةِ. والضمير في {بَيْنَهم} لقوم صالحٍ والناقة، فغلَّب العاقلَ.
{فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)}.
قوله: {فَنَادَوْاْ}: قبله محذوفٌ، أي: فتمادَوْا على ذلك ثم مَلُّوْهُ فعزمُوا على عَقْرِها فنادَوْا صاحبَهم وتَعاطَى: مطاوعُ عاطَى، كأنهم كانوا يتدافَعُونْ ذلك حتى تَوَلاَّه أَشْقاها.
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)}.
قوله: {كَهَشِيمِ المحتظر}: العامَّةُ على كسر الظاء اسمَ فَاعلٍ وهو الذي يَتَّخِذُ حَظيرةً مِنْ حَطَب وغيرِه. وقرأ أبو السَّمَّال وأبو حيوة وأبو رجاء وعمرو بن عبيد بفتحها. فقيل: هو مصدرٌ، أي: كَهَشِيم الاحتظار وقيل: هو مكانٍ. وقيل هم اسمُ مفعولٍ وهو الهَشيمُ نفسهُ، ويكون من بابِ إضافةِ الموصوفِ لصفتِه كمسجدِ الجامع. والحَظْرُ: المَنْعُ، وقد تقدَّم تحريرُه في سبحان.
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34)}.
قوله: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه مُتصلٌ ويكون المعنى: أنه أرسل الحاصِبَ على الجميع إلاَّ أهلَه فإنه لم يرسِلْ عليهم. والثاني: أنه منقطعٌ، ولا أدري ما وجهُه؟ فإنَّ الانقطاعَ وعدمَه عبارةٌ عن عدم دخولِ المستثنى في المستثنى منه، وهذا داخلٌ ليس إلا. وقال أبو البقاء: هو استثناءٌ منقطعٌ. وقيل: متصلٌ، لأنَّ الجميع أُرْسِلَ عليهم الحاصبُ فهَلَكوا إلاَّ آل لوطٍ. وعلى الوجهِ الأولِ يكون الحاصِبُ لم يُرْسَلْ على آلِ لوطٍ. انتهى. وهو كلامٌ مُشْكِلٌ.
وقوله: {نَّجَّيْنَاهُم} تفسيرٌ وجوابٌ لقائلٍ يقول: فما كان مِنْ شأنِ آلِ لوطٍ؟ كقوله: {أبى} بعد قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ} [البقرة: 34] وقد تقدَّم في البقرة.
{وبسَحَرٍ} الباءُ حاليةٌ أو ظرفيةٌ. وانصرف (سَحَر) لأنه نكرةٌ، ولو قُصِدَ به وقتٌ بعينِه لمُنعَ للتعريفِ والعَدْلِ عن أل، هذا هو المشهورُ وزعم صدرُ الأفاضل أنه مبنيُّ على الفتح كأمسِ مبنيًا على الكسر.
{نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)}.
قوله: {نِّعْمَةً}: إمَّا مفعولٌ به، وإمَّا مصدرٌ بفعلٍ مِنْ لفظِها، أو مِنْ معنى {نَجَّيْناهم} لأنَّ تَنْجِيَتَهم إنعامٌ، فالتأويلُ: إمَّا في العامل، وإمَّا في المصدر و{مِنْ عندِنا}: إمَّا متعلقٌ بنعمة، وإمَّا بمحذوفٍ صفةً لها. والكاف في {كذلك} نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أي: مثلَ ذلك الجزاء نَجْزِي. وقرأ العامة: {فَطَمَسْنا} مخففًا. وابن مقسم مُشَدَّدًا على التكثيرِ لأجلِ المتعلَّق أو لشِدَّة الفعلِ في نفسِه.
{وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)}.
قوله: {بُكْرَةً}: انصرفَ لأنه نكرةٌ، ولو قُصِد به وقتٌ بعينه امتنع للتعريف والتأنيثِ. وهذا كما تقدَّم في {غُدْوة} ومَنَعَها زيد بن علي الصرفَ، ذَهَب بها إلى وقتٍ بعينه.
{كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)}.
قوله: {أَخْذَ عَزِيزٍ}: مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه.
{أَمْ يَقولونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)}.
و: {أَمْ يَقولونَ}: العامَّةُ على الغَيْبة التفاتًا. وأبو حيوة وأبو البرهسم وموسى الأسواري بالخطاب جَرْيًا على ما تقدَّم مِنْ قوله: {أكُفَّاركم} إلى آخره.
{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)}.
والعامَّةُ على {سَيُهْزَمُ} مبنيًا للمفعول. و{الجَمْعُ} مرفوعٌ به. وقرئ: {ستَهْزِمُ} بفتح التاء خطابًا للرسول عليه السلام، {الجمعَ} مفعولٌ به، وأبو حيوة في روايةٍ ويعقوب {سَنَهْزِمُ} بنونِ المعظِّمِ نفسَه، و{الجمعَ} منصوبٌ أيضًا، ورُوِيَ عن أبي حيوة أيضًا وابن أبي عبلة {سَيَهْزِمُ} بياء الغَيْبة مبنيًا للفاعل، {الجمعَ} منصوبٌ، أي: سَيَهْزِمُ اللهُ الجمعَ.{ويُوَلُّوْن} العامَّة على الغَيْبة. وأبو حيوة وأبو عمروٍ في روايةٍ {وتُوَلُّون} بتاء الخطاب، وهي واضحةٌ.
والدُّبُرُ هنا: اسمُ جنسٍ. وحَسُنَ هنا لوقوعِه فاصلةً بخلافِ {لَيُوَلُّنَّ الأدبار} [الحشر: 12]. وقال الزمخشري: أي: الأدبار، كما قال:
كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا

وقرئ: {الإِدْبار}. قال الشيخ: وليس مثل (بعضِ بَطْنكم) لأن الإِفراد هنا له مُحَسِّنٌ ولا مُحَسِّنٌ لإِفرادِ (بَطْنكم).
{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)}.
قوله: {ذُوقُواْ}: على إرادةِ القول، وقرأ أبو عمروٍ وفي روايةِ محبوبٍ عنه {مَسَّقَر} وخَطَّأه ابن مجاهد. وهو معذورٌ لأنَّ السينَ الأخيرةَ مِنْ {مَسَّ} مُدْغَم فيها فلا تُدْغَمُ في غيرها لأنها متى أُدْغِم فيها لَزِم تحريكُها، ومتى أُدْغمت هي لَزِم سكونُها فتنافس الجَمْعُ بينهما. قال الشيخ: والظَّنُّ بأبي عمروٍ أنه لم يُدْغِمْ حتى حَذَفَ أحد الحرفينِ، لاجتماع الأمثال ثم أَدْغم. قلت: كلامُ ابن مجاهد إنما هو فيما قالوه إنه أدغم، أمَّا إذا حَذَفَ وأَدْغَمَ فلا إشكالَ.
{وسَقَر} عَلَمٌ لجهنم أعاذَنا اللَّهُ منها مشتقةٌ مِنْ سَقَرَتْه الشمسُ والنارُ، أي: لَوَّحَتْه ويُقال: صَقَرَتْه بالصاد، وهي مبدلَةٌ من السين لأجل القاف. قال ذو الرمة:
إذا ذابتِ الشمسُ اتَّقى صقراتها ** بأَفْنانِ مَرْبوع الصَّريمةِ مُعْبِلِ

و{سَقَر} متحتمُ المنعِ؛ لأن حركةَ الوسطِ تَنَزَّلَتْ مَنْزِلةَ الحرفِ الرابع كعَقْرب وزينب.
{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)}.
قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ}: العامَّةُ على نصب {كل} على الاشتغال وأبو السَّمَّال بالرفع. وقد رَجَّحَ الناسُ، بل بعضُهم أوجبَ النصبَ قال: لأن الرفعَ يُوْهِمُ ما لا يجوزُ على قواعد أهل السُّنَّة. وذلك أنه إذا رُفع {كل شيء} كان مبتدًا و{خَلَقْناه} صفةٌ ل {كل} أو لشيء. و {بقَدَر} خبرهُ. وحينئذٍ يكون له مفهومٌ لا يَخْفَى على متأمِّله، فيلزَمُ أن يكون الشيءُ الذي ليس مخلوقًا لله تعالى لا بَقَدَر، كذا قَدَّره بعضُهم. وقال أبو البقاء: وإنما كان النصبُ أَوْلى لدلالتِه على عموم الخَلْقِ، والرفعُ لا يدلُّ على عمومِه، بل يُفيد أنَّ كل شيءٍ مخلوقٌ فهو بقدر. وقال مكي بن أبي طالب: كان الاختيارُ على أصول البَصْريين رفع {كل} كما أن الاختيارَ عندهم في قولك (زيدٌ ضربْتُه) الرفعُ، والاختيارُ عند الكوفيين النصبُ فيه بخلاف قولنا (زيد أكرمتُه) لأنه قد تقدَّم في الآية شيءٌ عَمِل فيما بعده وهو (إنَّ) والاختيارُ عندهم النصبُ فيه. وقد أجمع القراء على النصبِ ف {كل} على الاختيار فيه عند الكوفيين لِيَدُلُّ ذلك على عموم الأشياء المخلوقاتِ أنها لله تعالى بخلافِ ما قاله أهلُ الزَيْغِ مِنْ أنَّ ثمَّ مخلوقاتٍ لغير الله تعالى، وإنما دلَّ النصبُ في {كلَّ} على العموم؛ لأن التقديرَ: إنَّا خَلَقْنا كلَّ شيء خَلَقْناه بَقَدَر، فَخَلَقْناه تأكيدٌ وتفسيرٌ ل (خَلَقْنا) المضمر الناصبِ ل {كلَّ}. وإذا حَذَفْتَه وأَظْهَرْت الأولَ صار التقديرُ: إنَّا خَلَقْناه كلَّ شيءٍ بَقدَر، فهذا لفظٌ عامٌ يَعُمُّ جميع المخلوقاتِ. ولا يجوز أَنْ يكون {خَلَقْناه} صفةً ل {شيءٍ} لأنَّ الصفةَ والصلةَ لا يعملان فيما قبل الموصوفِ ولا الموصولِ، ولا يكونان تفسيرًا لِما يعملُ فيما قبلهما، فإذا لم يَبْقَ {خَلَقْناه} صفةً لم يَبْقَ إلاَّ أنه تأكيدٌ وتفسيرٌ للمضمر النصب، وذلك يَدُلُّ على العموم. وأيضًا فإن النصبَ هو الاختيارُ لأنَّ {إنَّا} عندهم يَطلبُ الفعلَ فهو أَوْلى به، فالنصبُ عندهم في {كل} هو الاختيارُ، فإذا انضاف إليه معنى العموم والخروج عن الشُبَهِ كان النصبُ أَوْلى من الرفع.
وقال ابن عطية: وقومٌ من أهلِ السُّنَّة بالرفع. وقال أبو الفتح: هو الوجهُ في العربية، وقراءتنا بالنصب مع الجماعة. وقال الزمخشري: {كلَّ شيء} منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره الظاهرُ. وقرئ: {كلُّ شيءٍ} بالرفع. والقَدْر والقَدَر: التقديرُ، وقرئ بهما، أي: خَلَقْنا كلَّ شيء مُقَدَّرًا مُحْكَمًا مُرَتَّبًا على حَسَبِ ما اقْتَضَتْه الحكمةُ أو مُقَدَّرًا مكتوبًا في اللوح، معلومًا قبل كونِه قد عَلِمْنا حاله وزمانَه. انتهى.
وهو هنا لم يَتَعَصَّبْ للمعتزلةِ لضعفِ وجهِ الرفع.
وقال قومٌ: إذا كان الفعل يُتَوَهَّمُ فيه الوصفُ وأنَّ ما بعدَه يَصْلُحُ للخبر، وكان المعنى على أن يكون الفعلُ هو الخبرَ اختير النصبُ في الاسمِ الأولِ حتى يتضحَ أنَّ الفعل ليس بوصفٍ، ومنه هذا الموضعُ؛ لأنَّ قراءة الرفع تُخَيِّل أنَّ الفعلَ وصفٌ، وأن الخبرَ {بقدَر}. وقد تنازع أهلُ السنة والقَدَرِيَّة الاستدلال بهذه الآية: فأهلُ السُّنَّة يقولون: كلُّ شيء مخلوقٌ لله تعالى بقَدَرٍ، ودليلُهم قراءة النصبِ لأنه لا يُفَسَّر في هذا التركيب إلاَّ ما يَصِحُّ أن يكون خبرًا لو رُفِع الأولُ على الابتداء. وقال القَدَرية: القراءة برفع {كل} و{خَلَقْناه} في موضع الصفة ل {كل}، أي: إنَّ أمْرَنا أو شأنَنا: كلُّ شيء خَلَقْناه فهو بَقَدر أو بمقدار، وعلى حَدِّ ما في هيئتهِ وزمنِه.
وقال بعضُ العلماء: في القَدَر هنا وجوهٌ، أحدها: أنه المقدارُ في ذاتِه وفي صفاته. والثاني: التقديرُ كقوله: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون} [المرسلات: 23]. وقال الشاعر:
وقَد قَدَّر الرحمنُ ما هو قادِرُ

أي: ما هو مُقَدَّر. والثالث: القَدَرُ الذي يُقال مع القضاء كقولكَ: كان بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه فقوله: {بقَدَرٍ} على قراءة النصب متعلِّقٌ بالفعل الناصب وفي قراءة الرفع في محلِّ رفع، لأنه خبرٌ ل {كل} و{كل} وخبرُها في محل رفع خبرًا ل إنَّ.
{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)}.
وسيأتي قريبًا آيةٌ عكسَ هذه أعني في اختيار الرفع وهي قوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر} فإنَّه لم يختلف في رفعِه قالوا لأنَّ نصبَه يُؤدَّي إلى فسادِ المعنى لأنَّ الواقعَ خلافُه، وذلك أنَّك لو نَصَبْتَه لكان التقديرُ: فعلوا كلَّ شيءٍ في الزبُر، وهو خلافُ الواقع؛ إذ في الزُّبُر أشياءُ كثيرةٌ جدًا لم يفعلوها. وأمَّا قراءة الرفعِ فتؤَدِّي أنَّ كلَّ شيءٍ فعلوه هم، ثابتٌ في الزُبُر وهو المقصود فلذلك اتُّفِقَ على رفعِه، وهذان الموضعان مِنْ نُكَتِ المسائلِ العربيةِ التي اتَّفق مجيئُها في سورةٍ واحدةٍ في مكانَيْن متقاربين ومما يَدُلُّ على جلالةِ علمِ الإِعراب وإفهامهِ المعانيَ الغامضةَ. والجاهلون لأهل العلم أعداءٌ.
{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)}.
وقرأ العامة: {مُسْتَطَرٌ} بتخفيف التاءِ من السَّطر وهو الكَتْبُ، أي: مُكْتَتب. وقرأ الأعمش وعمران بن حدير وتُرْوَى عن عاصم بتشديدها. وفيه وجهان. أحدهما: أنه مشتقٌ مِنْ طَرَّ الشاربُ والنبات، أي: ظهر ونَبَتَ، بمعنى: أنَّ كلَّ شيءٍ قلَّ أو كثُر ظاهرٌ في اللوح غيرُ خفي، فوزنُه مُسْتَفْعَل كمُسْتَخْرج. والثاني: أنَّه من الاستطار، كالقراءة العامة وإنما شُدِّدَت الراءُ من أجل الوقفِ كقولهم: (هذا جَعْفَرّْ وفَرَجّْ) ثم أُجري الوصلُ مُجرى الوقف فوزنه مُفْتَعَلَ كقراءة الجمهور.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)}.
قوله: {نَهَرٍ}: العامةُ بالإِفرادِ وهو اسمُ جنسٍ بدليل مقارنتِه للجمع، والهاء مفتوحةٌ كما هو الفصيح، وسَكَّنها مجاهد والأعرج وأبو السَّمَّال والفياض وهي لُغَيَّةٌ. وقد تقدَّم الكلامُ عليها أولَ البقرة. وقيل ليس المرادُ هنا نهرَ الماءِ، وإنما المرادُ به سَعَةُ الأرزاقِ لأنَّ المادةَ تَدُلُّ على ذلك كقول قيس بن الخطيم:
مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَها ** يَرى قائمٌ مِنْ دونِها ما وراءَها

أي: وسَّعْتُ. وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز والأعمش وزهير الفرقبي {ونُهُر} بضم النونِ والهاءِ، وهي تحتمل وجهين، أحدهما: أَنْ يكونَ جمعَ نَهَر بالتحريك وهو الأَوْلى نحو: أُسُد في أَسَد. والثاني: أن يكون جمعَ الساكنِ نحو: سُقُف في سَقْف ورُهُن في رَهْن، والجمع مناسِبٌ للجمع قبلَه في {جنات} وقراءة العامة بإفرادِه أَبْلَغُ وقد تقدَّم كلامُ ابن عباس في قوله تعالى آخر البقرة {وملائكته وَكُتُبِهِ} [البقرة: 285] بالإِفرادِ، وأنه أكثرُ مِنْ (الكتب). وتقدَّم أيضًا تقديرُ الزمخشري لذلك، فعليك...
قوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ} يجوزُ أَنْ يكونَ خبرًا ثانيًا، وهو الظاهرُ وأَنْ يكون حالًا من الضمير في الجارِّ لوقوعِه خبرًا. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ بدلًا مِنْ قوله: {في جنات} وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونَ بدلَ بعضٍ، لأن المقعدَ بعضُها، وأَنْ يكون اشتمالًا أنها مشتمِلَةٌ، والأولُ أظهرُ، والعامَّةُ على إفراد {مَقْعَد} مُرادًا به الجنس كما تقدَّم في {نَهَر}. وقرأ عثمان البتِّي {مقاعِدِ} وهو مناسبٌ للجمع قبلَه. ومَقْعَدُ صِدْقِ من بابِ رجلُ صدقٍ: في أنه يجوزُ أنْ يكون من إضافةِ الموصوف لصفتِه. والصدقُ يجوزُ أَنْ يُرادَ بهِ ضدُّ الكذبِ، أي: صُدِّقوا في الإِخبار به، وأَنْ يرادَ به الجَوْدَةُ والخيريَّةُ.
و{مليك} مثلُ مبالغةٍ وهو مناسِبٌ هنا، ولا يُتَوهَّمُ أنَّ أصلَه مَلِك لأنه هو الوارِدُ في غيرِ موضعٍ، وأنَّ الكسرةَ أُشْبِعَتْ فتولَّد منها ياءٌ؛ لأنَّ الإِشباعَ لم يَرِدْ إلاَّ ضرورةً أو قليلًا، وإنْ كان قد وقع في قراءة هشام {أَفْئِيدَةً} في آخر إبراهيم، وهناك يطالعَ ما ذكَرْتُه فيه. اهـ.